فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإن لم يأولوا ذلك في حق أنفسهم وحملوه على الظاهر كما هو ظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] كانوا مكابرين في المحسوس بلا شبهة، فإن كل أحد منهم مساو لجميع الناس وللبهائم في أن له أبوين، وكانت دعواهم هذة ساقطة لا يردها عليهم إلا من تبرع بإلزامهم بمحسوس آخر هم به يعترفون، وقد أقام هو نفسه عليه الصلاة والسلام أدلة على صرفها عن ظاهرها، منها غير ما تقدم أنه كثيرًا ما كان يخبر عن نفسه فيقول: ابن الإنسان يفعل كذا، ابن البشر قال كذا يعني نفسه الكريمة، فحيث نسب نفسه إلى البشر كان مريدًا للحقيقة، لأنه ابن امرأة منهم، وهو مثلهم في الجسد، والمعاني حيث نسبها إلى الله سبحانه وتعالى كان على المجاز كما تقدم.
وأما السجود فقد ورد في التوراة كثيرًا لأحاد الناس من غير نكير، فكأنه كان جائزًا في شرائعهم فعله لغير الله سبحانه وتعالى على وجه التعظيم والله سبحانه وتعالى أعلم، وأما نحن فلا يجوز فعله لغير الله، ولا يجوز في شريعتنا أصلًا إطلاق الأب ولا الابن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وكذا كل لفظ أوهم نقصًا سواء صح أن ذلك كان جائزًا في شرعهم أم لا، وإذا راجعت تفسير البيضاوي لقوله سبحانه وتعالى في البقرة {إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون} [البقرة: 117] زادك بصيرة فيما هنا؛ والحاصل أنهم لم يصرفوا ذلك في حق عيسى عليه الصلاة والسلام عن ظاهره وحقيقته وتحكموا بأن المراد منه المجاز وهو هنا إطلاق اسم الملزوم على اللازم، وكذا غيره من متشابه الإنجيل، كما فعلنا نحن بمعونة الله سبحانه وتعالى في وصف الله سبحانه وتعالى بالرضى والغضب والرحمة والضحك وغير ذلك مما يستلزم حمله على الظاهر وصفات المحدثين، وكذا ذكر اليد والكف والعين ونحو ذلك فحملنا ذلك كله على أن المراد منه لوازمه وغاياته مما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع تنزيهنا له سبحانه وتعالى عن كل نقص وإثباتنا له كل كمال، فإن الله سبحانه وتعالى عزه وجده وجل قدره ومجده أنزل حرف المتشابه ابتلاء لعباده لتبين الثابت من الطائش والموقن من الشاك.
قال الحرالي في كتابه عروة المفتاح: وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق بمعتبر ما خلقهم عليه ليلفتوا عنه وليفهموا خطابه، وليتضح لهم نزول رتبهم عن علو ما تعرف به لهم، وليختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة يعني الأمر والنهي والحلال والحرام، وحبسهم بالخامس وتوقفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة، واتصافهم بالخامس ليتم لهم العبادة بالوجهين من العمل والوقوف والإدراك والعجز {فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: 3] علمًا وحسًا {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} [الملك: 4] عجزًا، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية والآتية وغائب الحاضرة ليسلموا له اختيار فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه، كما أسلموا له في الصغر اضطرارًا، فرزقهم حظًا من علم خلقه، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه سبحانه وتعالى عن نفسه وما بينه وبين خلقه وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل حرم اليقين بعلي الأمر والتحقيق في علم الخلق، وأوخذ بما أضاع من محكم ذلك المتشابه حين اشتغل لما يعنيه من حال نفسه بما لا يعنيه من أمر ربه، فكان كالمتشاغل بالنظر في ذي الملك، وتنظره يرمي نفسه عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده وتذلله لحرمته؛ وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين: مبهمة ومفصلة، أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله سبحانه وتعالى من غير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال، وليتدرب المخاطب بتوقفه على المبهم على توقفه عن مفصله ومبهمه، وهو جامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسع والعشرين من سوره وبه افتتح الترتيب في القرآن، ليتلقى الخلق بادي أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى بعلمه بفتح من لدنه، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب لمن علمه الله سبحانه وتعالى كنهه من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه، وذلك قوله سبحانه وتعالى: {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 1، 2] لمن علمه الله إياه {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 2، 3] وقوفًا عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه، حتى تلحقه العنايه من ربه فعلمه ما لم يكن في علمه؛ وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزيلات أمره، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته وتصيير حكمته وباطن ملكوته وعزيز جبروته وأحوال أيامه؛ وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] إلى قوله سبحانه وتعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [لبقرة: 115] إلى سائر ما أخبر عنه من عظم شأنه في جملة آيات متعددات لقوله سبحانه وتعالى: {إلا لنعلم من يتبع الرسول} [البقرة: 143]، {فإني قريب} [البقرة: 186] {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة} [البقرة: 210]، {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279]، {هو الذي يصوركم في الأرحام} [آل عمران: 6]، {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 128]، {ولله ملك السماوات والأرض} [آل عمران: 189]، {والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284]، {وكان الله سميعًا بصيرًا} [النساء: 85]، {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائده: 64]، {وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} [الأنعام: 3]، {خلق السماوات والأرض} [الأعراف: 54]، {ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54]، {ولتصنع على عيني} [طه: 39]، {قل من بيده ملكوت كل شيء} [المؤمنون: 88]، {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله} [القصص: 30]، {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88]، {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب: 43]، {إن الله وملائكته يصلون علىلنبي} [الأحزاب: 56]، {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [الأعراف: 12]، {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84]، {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه} [الجاثيه: 13]، {وله الكبرياء في السماوات والأرض} [الجاثيه: 37]، {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك} [الرحمن: 26، 27]، {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3]، {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4]، {ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} [المجادلة: 7]، {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2]، {تبارك الذي بيده الملك} [الملك: 1]، {تعرج الملائكة والروح اليه} [المعارج: 4]، {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23]، {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} [الإنسان: 30]، {وجاء ربك والملك صفًا صفًا} [الفجر: 22] إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزلات أمره وتسوية خلقه وما أخبرعنه حبيبه صلى الله عليه وسلم من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والإشفاق وسائر الأحوال المشار إليها في حرف المحكم من نحو حديث النزول والقدمين والصورة والضحك والكف والأنامل، وحديث عناية لزوم التقرب بالنوافل وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين، واعتنى بجمعها الحافظ المتقن أبو الحسن الدارقطني رحمه الله تعالى، ودوَّن بعض المتكلمين جملة منها لقصد التأويل، وشدد النكير في ذلك أئمة المحدثين، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ورحمة أنه قال: آيات الصفات وأحاديث الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الله سبحانه وتعالى، تأويلها تلاوتها، ولذلك أئمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين والذي اجتمعت عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك عن الله ومن رسوله ومن الأئمة إنما هو لمقصد الإفهام، لا لمقصد الإعلام، فلذلك لم يستشكل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شيئًا قط، بل كلما كان وارده عليهم أكثر كانوا به أفرح، وللخطاب به أفهم، حتى قال بعضهم لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن الله تعالى يضحك من عبده»: لا نعدم الخير من رب يضحك وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان: إما متوقف عنه في حد الإيمان، قانع بما أفاد من الإفهام، وإما مفتوح عليه بما هو في صفاء الإيقان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق وفي أنفسهم تعليمًا، وتعرف للخاصة منهم بالأوصاف العليا والأسماء الحسنى مما يمكنهم اعتباره تعجيزًا، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك فعرفوا أن لا معرفة لهم، وذلك هو حد العرفان وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن، وتحققوا أن {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] و{لم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 4] فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان، والله يحب المحسنين.
ثم قال فيما به تحصل قراءة هذا الحرف: اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تمامًا لأن حرف المحكم حال يتحقق للعبد.
ولما كان حرف المتشابه إخبارًا عن نفسه سبحانه وتعالى بما يتعرف به لخلقه من أسماء وأوصاف كانت قراءته بتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق ولا ما تناله عقولهم، وإن أجرى على تلك الاسماء والأوصاف على الخلق فيوجه، لا يلحق أسماء الحق ولا أوصافه منها تشبيه في وهم ولا تمثيل في عقل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]، {ولم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 4]، فلاذي يصح به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق وتقف عن تأويلها إجلالًا وإعظامًا معلوماتُهم، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها، وأما من جهة حال النفس والاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها والبراءة من الاتصاف بها لأن ما صلح للسيد حرم على العبد لتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى، ولا يتسمى بالغنى فيقدح في هداه، فيهلك باسمه ودعواه، ولتحقق ذلهم من تسميته تعالى بالعزة وعجزهم عن تسميته بالقدرة، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان والغضب والرضى والوعد والوعيد والترغيب والترهيب إلى سائر ما تسمى به في جميع تصرفاته مما ذكر في المتشابه من الآي، وأشير إليه من الأحاديث، وما عليه اشتملت واردات الأخبار في جميع الصحف والكتب، ومرائي الصالحين ومواقف المحدثين ومواجد المروّعين؛ وأما من جهة العمل فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقًا لما في مضمون قوله سبحانه وتعالى: {ولم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 4] لأن مقتضاها الرد على المشبه من هذه الأمة، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى ما ذكر من لفظ اللسان، فقراءته كالتوطئة لتخليص العبادة بالقلب في قراءة مفرد حرف الأمثال؛ والله العلي الكبير انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

قد ذكرنا في اتصال قوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء فِي الأرض وَلاَ في السماء} بما قبله احتمالين:
أحدهما: أن ذلك كالتقرير لكونه قيومًا.
والثاني: أن ذلك الجواب عن شبه النصارى، فأما على الاحتمال الأول فنقول: أنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح الخلق ومصالح الخلق قسمان: جسمانية وروحانية، أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية، وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال، وهو المراد بقوله: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام: أنه روح الله وكلمته، فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم، هو في غاية الحسن والاستقامة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

قوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} استئناف لإبطال شبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت المسيح عليه السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه. قيل: إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعم أن عيسى كلمة الله تعالى وروح منه؟ قال: بلى قالوا: فحسبنا ذلك فنفى سبحانه عليهم زيفهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه كذا قيل ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها، واعترض بأن هذا الأثر لم يوجد له أثر في الصحاح ولا سند يعول عليه في غيرها، وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتي الوفد، وفيه أن الأثر بعينه أخرجه في (الدر المنثور) عن أبي حاتم وابن جرير عن الربيع، وعن بعضهم أن الآية نزلت في اليهود، وذلك حين مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (1، 2) {الم ذلك الكتاب} فأتى أخاه حي بن أخطب في رجال من يهود فقال: أتعلمون والله لقد سمعت محمدًا يتلو فيما أنزل عليه {الم ذلك الكتاب} فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم فمشى حي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك {الم ذلك الكتاب}؟ فقال: بلى فقال: لقد بعث الله تعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل مع هذا غيره؟ قال: نعم {المص} [الأعراف: 1] قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا غيره؟ قال: نعم {الر} [يونس: 1] قال: هذه أثقل وأطول هل مع هذا غيره؟ قال: بلى {المر} [الرعد: 1] قال: هذه أثقل وأطول ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلًا أعطيت أم كثيرًا ثم قال: قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا: لقد تشابه علينا أمره.
وقد أخرج ذلك البخاري في (التاريخ) وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية إن الله تعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن في المتشابه خفاءًا كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويرًا وتكميلًا في الجملة ناسب ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف. اهـ.

.قال القرطبي:

خرّج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم» وعن أبي غالب قال: كنت أمشي مع أبي أُمَامة وهو على حمارٍ له، حتى إذا انتهى إلى دَرَج مسجد دمشق فإذا رؤوس منصوبة؛ فقال: ما هذه الرُّؤوس؟ قيل: هذه رؤوس خوارج يجاء بهم من العراق.
فقال أبو أُمامة: كِلابُ النار كِلابُ النار كلابُ النار شرُّ قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قتلهم وقتلوه يقولها ثلاثًا ثم بكى.
فقلت: ما يبكيك يا أبا أُمَامة؟ قال: رحمةً لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه؛ ثم قرأ {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} إلى آخر الآيات.
ثم قرأ {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البينات} [آل عمران: 105].
فقلت: يا أبا أُمَامة، هُمْ هؤلاء؟ قال نعم.
قلتُ: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إني إذًّا لَجَريءٌ إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمسٍ ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيْه في أُذُنَيْه، قال: وإلاّ فصُمَّتا قالها ثلاثًا ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقةً واحدةٌ في الجنة وسائرهم في النار ولتَزيدنّ عليهم هذه الأمة واحدة واحدةٌ في الجنة وسائرُهم في النار». اهـ.